فصل: تفسير الآيات (23- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (23- 24):

{وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24)}
قوله تعالى: {وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ} هذا تنبيه على عظم قدر يوم القيامة، أي قصدنا في ذلك إلى ما كان يعمله المجرمين من عمل بر عند أنفسهم. يقال: قدم فلان إلى أمر كذا أي قصده، وقال مجاهد: {قَدِمْنا} أي عمدنا.
وقال الراجز:
وقدم الخوارج الضلال

ألى عباد ربهم فقالوا

إن دمائكم لنا حلال

وقيل: هو قدوم الملائكة، أخبر به عن نفسه تعالى فاعله. {فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً} أي لا ينفع به، أي أبطلناه بالكفر. وليس {هَباءً} من ذوات الهمز وإنما همزت لالتقاء الساكنين. والتصغير هبي في موضع الرفع، ومن النحويين من يقول: هبي في موضع الرفع، حكاه النحاس. وواحده هباه والجمع أهباء. قال الحرث بن حلزة يصف ناقة: فترى خلفها من الرجع والوق- ع منينا كأنه أهباء وروى الحرث عن على قال: الهباء المنثور شعاع الشمس الذي يدخل من الكوة.
وقال الأزهري: الهباء ما يخرج من الكوة في ضوء الشمس شبيه بالغبار. تأويله: إن الله تعالى أحبط أعمالهم حنى صارت بمنزلة الهباء المنثور. فأما الهباء المنبث فهو ما تثيره الخيل بسنابكها من الغبار. والمنبث المتفرق.
وقال ابن عرفة: الهبوة والهباء التراب الدقيق. الجوهري: ويقال له إذا ارتفع هبا يهبو هبوا واهبيته أنا. والهبوة الغبرة. قال رؤبة: تبدو لنا أعلامه بعد الغرق في قطع الآل وهبوات الدقق وموضع هابي التراب أي كأن ترابه مثل الهباء في الرقة.
وقيل: إنه ما ذرته الرياح من يا بس أوراق الشجر، قاله قتادة وابن عباس.
وقال ابن عباس أيضا: إنه الماء المهراق.
وقيل: إنه الرماد، قاله عبيد بن يعلى. قوله تعالى: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا}. تقدم القول فيه عند قوله تعالى: {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}. قال النحاس: والكوفيون يجيزون العسل أحلى من الخل وهذا قول مردود، لان معنى فلان خير من فلان أنه أكثر خيرا منه ولا حلاوة في الخل. ولا يجوز أن يقال: النصراني خير من اليهودي، لأنه لا خير فيهما فيكون أحدهما أزيد في الخير. لكن يقال: اليهودي شر من النصراني، فعلى هذا كلام العرب. و{مُسْتَقَرًّا} نصب على الظرف إذا قدر على غير باب {أفعل منك} والمعنى لهم خير في مستقر. وإذا كان من باب أفعل منك فانتصابه على البيان، قاله النحاس والمهدوي. قال قتادة: {وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} منزلا ومأوى. وقيل هو على ما تعرفه العرب من مقيل نصف النهار. ومنه الحديث المرفوع«إن الله تبارك وتعالى يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة واهل النار في النار» ذكره المهدوي.
وقال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة من النهار حتى يقبل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار، قرأ {ثم إن مقيلهم لا لي الجحيم} كذا هي في قراءة ابن مسعود.
وقال ابن عباس: الحساب من ذلك اليوم في أوله، فلا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى قيل أهل الجنة في الجنة واهل النار في النار. ومنه ما روى«قيلوا فإن الشياطين لا تقيل». وذكر قاسم ابن أصبغ من حديث أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فقلت: ما أطول هذا اليوم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا».

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ} أي واذكر يوم تشقق السماء بالغمام. وقرأه عاصم والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وأبو عمرو {تَشَقَّقُ} بتخفيف الشين وأصله تتشقق بتاءين فخذوا الأولى تخفيفا، واختاره أبو عبيد. الباقون {تشقق} بتشديد الشين على الإدغام، واختاره أبو حاتم. وكذلك في ق. {بالغمام} أي عن الغمام. والباء وعن يتعاقبان، كما تقول: رميت بالقوس، وعن القوس. روى أن السماء تتشقق عن سحاب أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبنى إسرائيل في تيههم فتنشق السماء عنه، وهو الذي قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ}. {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} من السموات، ويأتي الرب عز وجل في الثمانية الذين يحملون العرش لفصل القضاء، على ما يجوز أن يحمل عليه إتباعه، لا على ما تحمل عليه صفات المخلوقين من الحركة والانتقال.
وقال ابن عباس: تتشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والانس، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر ممن في سماء الدنيا، ثم كذلك حتى تنشق السماء السابعة، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، وهو معنى قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا} أي من السماء إلى الأرض لحساب الثقلين.
وقيل: إن السماء تنشق بالغمام الذي بينها وبين الناس، فبتشقق الغمام تتشقق السماء، فإذا انشقت السماء انتقض تركيبها وطويت ونزلت الملائكة إلى مكان سواها. وقرأ ابن كثير {وننزل الملائكة} بالنصب من الانزال الباقون {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ} بالرفع. دليلة {تَنْزِيلًا} ولو كان على الأول لقال إنزالا. وقد قيل: إن ننزل وأنزل بمعنى، فجاء {تَنْزِيلًا} على {نُزِّلَ} وقد قرأ عبد الوهاب عن أبى عمرو {ونزل الملائكة تنزيلا}. وقرأ ابن مسعود {وأنزل الملائكة} أبى بن كعب: {ونزلت الملائكة}. وعنه {وتنزلت الملائكة}. قوله تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ} {الْمُلْكُ} مبتدأ و{الْحَقُّ} صفة له و{لِلرَّحْمنِ} الخبر، لان الملك الذي يزول وينقطع ليس بملك، فبطلت يومئذ أملاك المالكين وانقطعت دعاويهم، وزال كل ملك وملكه، وبقي الملك الحق لله وحده. {وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً} أي لما ينالهم من الأهوال ويلحقهم من الخزي والهوان، وهو على المؤمنين أخف من صلاة مكتوبة، على ما تقدم في الحديث. وهذه الآية دالة عليه، لأنه إذا كان على الكافرين عسيرا فهو على المؤمنين يسير. يقال: عسر يعسر، وعسر يعسر.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} الماضي عضضت. وحكى الكسائي عضضت بفتح الضاد الأولى. وجاء التوقيف عن أهل التفسير، منهم ابن عباس وسعيد ابن المسيب أن الظالم هاهنا يراد به عقبه بن أبى معيط، وأن خليله أمية بن خلف، فعقبه قتله علي بن أبى طالب رضي الله عنه، وذلك أنه كان في الأسارى يوم بدر فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله، فقال: أأقتل دونهم؟ فقال، نعم، بكفرك وعتوك. فقال: من للصبية؟ فقال: النار. فقام على رضي الله عنه فقتله. وأمية قتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان هذا من دلائل نبوه النبي صلى الله على وسلم، لأنه خبر عنهما بهذا فقتلا على الكفر. ولم يسميا في الآية لأنه أبلغ في الفائدة، ليعلم أن هذا سبيل كل ظالم فبل من غيره في معصية الله عز وجل. قال ابن عباس وقتادة وغيرهما: وكان عقبة قد هم بالإسلام فمنعه منه أبى بن خلف وكانا خدنين، وأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتلهما جميعا: قتل عقبة يوم بدر صبرا، وأبى بن خلف في المبارزة يوم أحد، ذكره القشيري والثعلبي، والأول ذكره النحاس.
وقال السهيلي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ} هو عقبة بن أبى معيط، وكان صديقا لامية بن خلف الجمحي ويروى لابي بن خلف أخ أمية، وكان قد صنع وليمة فدعا إليها قريشا، ودعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبى أن يأتيه إلا أن يسلم. وكره عقبة أن يتأخر عن طعامه من أشراف قريش أحد فأسلم ونطق بالشهادتين، فأتاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واكل من طعامه، فعاتبه خليله أمية بن خلف، أو أبي بن خلف وكان غائبا. فقال عقبة: رأيت عظيما ألا يحضر طعامي رجل من أشراف قريش. فقال له خليله: لا أرضى حتى ترجع وتبصق في وجهه وتطأ عنقه وتقول كيت وكيت. ففعل عدو الله ما أمره به خليله، فأنزل الله عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ}. قال الضحاك: لما بصق عقبة في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجع بصاقه في وجهه وشوى وجهه وشفتيه، حتى أثر في وجهه وأحرق خديه، فلم يزل أثر ذلك في وجهه حتى قتل. وعضه يديه فعل النادم الحزين لأجل طاعته خليله. {يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} في الدنيا، يعني طريقا إلى الجنة. {يا ويلتا} دعاء بالويل والثبور على محالفة الكافر ومتابعته. {ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} يعني أمية، وكنى عنه ولم يصرح باسمه لئلا يكون هذا الوعد مخصوصا به ولا مقصورا، بل يتناول جميع من فعل مثل فعلهما.
وقال مجاهد وأبو رجاء: الظالم عام في كل ظالم، وفلان: الشيطان. واحتج لصاحب هذا القول بأن بعده {وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا}. وقرأ الحسن {يا ويلتى} وقد مضى في هود بيانه. والخليل: الصاحب والصديق وقد مضى في النساء بيانه. {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والايمان به.
وقيل: {عَنِ الذِّكْرِ} أي عن الرسول. {وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا} قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله: {بَعْدَ إِذْ جاءَنِي}. والخذل الترك من الإعانة، ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء. ولقد أحسن من قال: تجنب قرين السوء واصرم حباله فإن لم تجد عنه محيصا فداره وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءة تنل منه صفو الود ما لم تماره وفى الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا إذا اشتعلت نيرانه في عذاره آخر: اصحب خيار الناس حيث لقيتهم خير الصحابة من يكون عفيفا والناس مثل دراهم ميزتها فوجدت منها فضة وزيوفا وفى الصحيح من حديث أبى موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد ريحا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة» لفظ مسلم. وأخرجه أبو داود من حديث أنس.
وذكر أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: «من ذكركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله».
وقال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الأحجار مع الأبرار خير لك من أن تأكل الخبيص مع الفجار. وأنشد:
وصاحب خيار الناس تنج مسلما ** وصاحب شرار الناس يوما فتندما

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31)}
قوله تعالى: {وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ} يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يشكوهم إلى الله تعالى. {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي قالوا فيه غير الحق من إنه سحر وشعر، عن مجاهد والنخعي.
وقيل: معنى {مَهْجُوراً} أي متروكا، فعزاه الله تبارك وتعالى وسلاه بقوله: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} أي كما جعلنا لك يا محمد عدوا من مشركي قومك- وهو أبو جهل في قول ابن عباس- فكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من مشركي قومه، فاصبر لامرى كما صبروا، فإنى هاديك وناصرك على كل من ناوأك. وقد قيل: إن قول الرسول {يا رَبِّ} إنما يقوله يوم القيامة، أي هجروا القرآن وهجروني وكذبوني.
وقال أنس قال النبي صلى الله غلية وسلم: «من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهد ولم ينظر فيه جاء
يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين إن عبدك هذا اتخذني مهجورا فاقض بيني وبينه»
. ذكره الثعلبي. {وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً} نصب على الحال أو التمييز، أي يهديك وينصرك فلا تبال بمن عاداك.
وقال ابن عباس: عدو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو جهل لعنه الله.

.تفسير الآيات (32- 33):

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً} اختلف في قائل ذلك على قولين: أحدهما- أنهم كفار قريش، قاله ابن عباس. والثاني- انهم اليهود حين رأوا نزول القرآن مفرقا قالوا: هلا أنزل عليه جملة واحدة كما أنزلت التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود. فقال الله تعالى: {كَذلِكَ} أي فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} نقوى به قلبك فتعيه وتحمله، لان الكتب المتقدمة أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرءون، والقرآن أنزل على نبى أمي، ولان من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أمور، ففرقناه ليكون أوعى للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأيسر على العامل به، فكان كلما نزل وحى جديد زاده قوة قلب. قلت: فإن قيل هلا أنزل القرآن دفعة واحدة وحفظه إذا كان ذلك في قدرته؟. قيل: في قدرة الله أن يعلمه الكتاب والقرآن في لحظة واحدة، ولكنه لم يفعل ولا معترض عليه في حكمه، وقد بينا وجه الحكمة في ذلك. وقد قيل: إن قوله: {كَذلِكَ} من كلام المشركين، أي لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك، أي كالتوراة والإنجيل، فيتم الوقف على {كَذلِكَ} ثم يبتدئ {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ}. ويجوز أن يكون الوقف على قوله: {جُمْلَةً واحِدَةً} ثم يبتدئ {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} على معنى أنزلناه عليك كذلك متفرقا لنثبت به فؤادك. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أجود وأحسن، والقول الثاني قد جاء به التفسير، حدثنا محمد ابن عثمان الشيبى قال حدثنا منجاب قال حدثنا بشر بن عمارة عن أبى روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال: أنزل القرآن جملة واحدة من عند الله عز وجل في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء، فنجمه السفرة الكرام على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل عليه السلام على محمد عشرين سنة. قال: فهو قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ} يعني نجوم القرآن {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} قال: فلما لم ينزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جملة واحدة، قال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، فقال الله تبارك وتعالى: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} يا محمد. {وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} يقول: ورسلناه ترسيلا، يقول: شيئا بعد شي. {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} يقول: لو أنزلنا عليك القرآن جملة واحدة ثم سألوك لم يكن عندك ما تجيب به، ولكن نمسك عليك فإذا سألوك أجبت. قال النحاس: وكان ذلك من علامات النبوة، لأنهم لا يسألون عن شيء إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبى، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده وأفئدتهم، ويدل على هذا {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} ولو نزل جملة بما فيه من الفرائض لثقل عليهم، وعلم الله عز وجل أن الصلاح في إنزاله متفرقا، لأنهم ينبهون به مرة بعد مرة، ولو نزل جملة واحدة لزال معنى التنبيه وفيه ناسخ ومنسوخ، فكانوا يتعبدون بالشيء إلى وقت بعينه قد علم الله عز وجل فيه الصلاح، ثم ينزل النسخ بعد ذلك، فمحال أن ينزل جملة واحدة: افعلوا كذا ولا تفعلوا. قال النحاس: والأولى أن يكون التمام {جُمْلَةً واحِدَةً} لأنه إذا وقف على {كَذلِكَ} صار المعنى كالتوراة والإنجيل والزبور ولم يتقدم لها ذكر. قال الضحاك: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا. والمعنى: أحسن من مثلهم تفصيلا، فحذف لعلم السامع.
وقيل: كان المشركون يستمدون من أهل الكتاب وكان قد غلب على أهل الكتاب التحريف والتبديل، فكان ما يأتي به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن تفسيرا مما عندهم، لأنهم كانوا يخلطون الحق بالباطل، والحق المحض أحسن من حق مختلط بباطل، ولهذا قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ}.
وقيل: {لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} كقولهم في صفة عيسى إنه خلق من غير أب إلا جئناك بالحق أي بما فيه نقض حجتهم كآدم إذ خلق من غير أب وام.